الخميس، 3 أبريل 2014

الدولة المصرية الفاشلة


مجتمع جديد أو الكارثة

(2) المعلومات
      بينما تسير حركة التطور التكنولوجي بطول العالم وعرضه، وصولا إلى نقل ما يجري على سطح القمر لحظة وقوعه إلى جمهور الأرض، يقف المجتمع المصري عاجز عن اتخاذ قرار واحد سليم، وفق معطيات سليمة، أو معلومات مؤكدة موثقة.. مابين تطور وتسارع وتيرة التقدم المعرفي عالميا، وبين تسارع وتيرة الحركة للوراء محليا.. يبرز حجم الكارثة.
المعرفة سلطة :
       يسم الخبراء والعلماء العصر الراهن بأنه عصر المعرفة/ المعلومات، فقد أنجز العلم في العقود الثلاثة الأخيرة ما لم ينجزه في قرون طوال والذي أتى للعالم بكتل هائلة من المعارف، مختلفة فى الكم، وفى النوع، عن معارف القرون السابقة، وهى فى ازدياد مستمر، وتنوع هائل، وتعقد لا ينقطع، مما جعل التطبيقات العلمية تشهد طفرة ضخمة وخاصة في مجال الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة، وربطت الشعوب المتباعدة، فأصبح الإنسان يستطيع أن يرصد ما يجرى على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، بالصوت والصورة لحظة حدوثه، وفرضت فى أجواء الفضاء العالمى السرعة البالغة وسعة المعلومات وتشابكها، وإلغاء الأبعاد وترابطها، وتقلص المسافات الزمانية والمكانية وتجاوزها.
      وربما يكون بطل المشهد المعاصر هو جهاز " الكومبيوتر" الذى أضاف إلى الإنسان قدرات هائلة على الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها بسرعة خيالية تتجاوز عبر تطوراتها حدود الوقت والجهد المبذول فى العصر الماضى بطريقة لا يمكن تصورها، وما بين تدفق الإنتاج المعرفي/ العلمي، وبين التطور التكنولوجي والإتاحة المعلوماتية واسعة الانتشار، تسارعت خطوات العلم وتضاعفت إنجازاته، وهو ما نتج عنه مزيد من التطور... وهكذا، في منظومة معقدة تستعصي على التفكيك وتفتح آفاقا جديدة للبشرية تطؤها للمرة الأولى.

       هذه القفزات المعرفية التي يشهدها العالم (المتقدم)، أثرت وتفاعلت مع المجتمعات (المنتجة للمعرفة) لتعيد صياغة علاقاتها البينية، وتصوراتها الذهنية، وتؤثر في بنية منظومتها القيمية، بطرق متفاوتة ولكنها تتناسب مع حجم ما قدمه هذا المجتمع أو ذاك من رؤى  ونظريات علمية، وتفاعلاتها الاقتصادية بحيث تنمو نموا يتناسب مع حركتها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والسياسة... ألخ، بالقدر الذي يسمح بصيرورة تطور متسق تقلل من مساحة التخمينات، ومن ثم القدرة على وضع خطط واضحة المعالم للتنمية ومعالجة المشكلات ومعرفة الفرص والتحديات التي تواجه المجتمع ، واكتشاف نقاط الضعف والقوة التي تحد من تطوره ... فالمعرفة التي يحوزها المجتمع والتي يتم ترجمتها إلى بيانات وإحصاءات محددة و(دقيقة) حول وضع المجتمع الراهن ، يسهل عملية التنبوء بالمستقبل واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب .
المسألة المصرية :
     إن الطرح السابق لم يكن سوى مقدمة طويلة للحديث عن وضع مصر المعرفي (المعلوماتي)، وإذا أردت الدقة، أزمة المعرفة في مصر، ومن ثم أزمة المعلومات، لا أتحدث هنا عن موضوع الشفافية فحسب، بل وعن غياب البيانات، والإحصاءات المحددة والدقيقة، والتي تسهل على صناع ومتخذي القرار القيام بالفعل المناسب، ووضع السيناريوهات والبرامج والمشروعات وفقا لرؤية واضحة ومحددة، ويسهل على المسئولين محاسبة المقصر، ويتيح لأعضاء المجتمع المشاركة الفعلية في إدارة شئون الدولة والمجتمع بوصفهم شريك في الأزمة، هذه المعادلة الصعبة التي تدور في فلكها الدولة المصرية الفاشلة، فما بين غياب المعلومات وبين إخفائها، تهدر الموارد، ويغيب المواطن، وينقسم المجتمع لأجهزة ومؤسسات حكومية، و(أفراد)، لا يرى كل طرف منها الآخر إلا عند الاحتياج، ويصبح هناك دولة موازية يحكمها أفراد أو منظمات أو جماعات خارج سياق أجهزة الدولة، يلبون بعض من مطالب الناس، أو يسهلون لهم علاقة آمنة مع أجهزة الدولة حين الاضطرار للتعامل مع أي منها (مجبرا)، ويبدو الأمر بوصفه عدم وعي من قبل المجتمع لما تطرحه الحكومة من حلول ومعالجات للأزمة، وتكثر الشكوى حول جهل المواطن، من قبل الحكومة والمعارضة والنخب، وتتعالى الأصوات حول عدم درايته بالوضع الصعب الذي تعيشه مصر، والأزمة التي تواجهها، بل ويصمه البعض بعدم الانتماء أو ميله الطبيعي للعبودية، أو عدم وعيه بمصالحه ... إلخ، وهي في حقيقتها تعبير عن رفض (سالب) لممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية لنظام قرر أن يبعد المجتمع ويقصيه عن دائرة اتخاذ القرار، واستخدم في ذلك كل أدوات القمع من ناحية، وأدوات التغييب من ناحية أخرى، في ظل غياب للمعرفة والعلم، وتدني (متعمد) لمستوى التعليم (ولنا معه وقفة أخرى). ليس هذا فحسب بل إن غياب المعلومات، وندرة البيانات والإحصاءات قد أنتج  مناخا جاهزا لتلقي وإنتاج الشائعات وتدويرها حتى تتحول إلى مايشبه المعلومة المؤكدة، ومن ثم تصبح تكنولوجيا الاتصالات أكبر مصدر للجهل، أو للمعلومات المغلوطة.
       وفي ظل تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ليست على المستوى المحلي فحسب بل وعلى المستوى العالمي أيضا، فالأمر الذي يطرحه المنظرون والخبراء بوصفه دلالة اجتماعية على غياب الانتماء وضعف الوطنية، في الواقع هو تعبير عن تجليات عملية التغييب التي يديرها المسئولون الفشلة لكي لا يحاسبوا، في مواجهة مجتمع مازال غالبيته لايجيد القراءة والكتابة، ولا يشعر بأن هذا الوطن ملك له، لا لشئ إلا لأنه لا (يعلم) عنه ما يجعله مهتما بأموره، وربما كانت الرسالة التي وجهها المجتمع عندما احتفى برئاسة الجنزوري في تسعينات القرن الماضي هي خير دليل على رغبته في المعرفة والمشاركة، لم يكن حب الناس للجنزوري سوى لأنه يتكلم بالبيانات والإحصاءات.. يتحدث بالأرقام .
ما العمل :
     تبدو مفردات وعناصر الأزمة واضحة، مجتمع غير منتج للمعرفة والعلم، يستهلك تطبيقاته العلمية المتنوعة في مناحي الحياة اليومية المختلفة بشره، أجهزة دولة ترفض البوح بالمعلومات التي توضح وضع الدولة الراهن، أو تغيب فيها البيانات التي تسهل عمليات صنع القرار ووضع الحلول الملائمة، فساد وفشل متجذر في هذه الأجهزة بل وطال شرائح كبيرة من المجتمع، غياب للكفاءة على المستويات كافة وفي أغلب المجالات، ومن ضمنها أجهزة ومؤسسات الإعلام والتعليم والتنظيمات السياسية، غياب الرغبة والإرادة السياسية لتقديم حلول، بل ومحاولة الاستفادة من الوضع الراهن والحفاظ عليه من قبل قطاع كبير داخل أجهزة ومؤسسات الدولة .

     لا يمكن بأي حال من الأحوال لمجتمع بحجم مصر (الكثافة السكانية ــــــ المساحة الجغرافية) أن ينهض دون امتلاك أدوات التقدم الأولية، والتي تتمثل في البحث العلمي والمعرفة، وأن تدعم المراكز المعنية المتنوعة (مراكز بحث ــــــ جامعات ) ماديا وأدبيا، لاستعادة دورها في كافة مجالات الحياة لتتمكن من بناء خريطة معلوماتية شاملة لمصر، ولنقف جميعا على الوضع الراهن، وهنا يأتي دور الإتاحة، فهذه المعلومات من بيانات وإحصاءات يجب أن تتاح للجميع، وأن يكون الحق في تداول المعلومات حق أصيل كما أقره الدستور، يقنن ويجرم أي مسئول ينتهكه، ومن ثم يتم توفير الميزانيات المناسبة، ووضع القوانين الداعمة، ووضع السياسات المحفزة على نشر ثقافة المعرفة، واحترام العلم والبحث العلمي، يمكننا أن نقول أن المجتمع المصري بإنجازه لهذه الخطوة يصبح قاب قوسين أو أدنى من بناء نهضته المعاصرة.

الأحد، 30 مارس 2014

الدولة المصرية الفاشلة


مجتمع جديد أو الكارثة 
         لم تكن ثورة 25 يناير مؤامرة أمريكية أخوانية صهيونية إلى آخره من الأوصاف التي يحب منظروا الثورة المضادة إلصاقها بهذه الثورة المجيدة ، بل كانت تعبيرا واضحا عن سخط مجتمعي ، وغضب شعبي متباين الدوافع الأسباب ، ولكنه يعبر بوجه ما من الوجوه عن فشل مؤسسات الدولة في تسيير شئون المجتمع ، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات ــــ التي تعبر في صميمها عن مجموعة من الحقوق المجتمعية الملزمة لأية دولة في حدوها الدنيا ــــ ولقد طالت منظومة الفشل هذه مؤسسات الدولة كافة ، بما فيها التعليم والصحة ، فتراجعت كفاءة المصريين مثلما تراجعت صحتهم ، ولم تكن مؤسسات إدارة الدولة السياسية ببعيدة عن هذا الفشل الذي أصاب منظومة العمل . ولهذا الفشل أسبابه المنطقية من فساد ومحسوبية تعشش في كيانات هذه المؤسسات وهياكلها الإدارية ، حيث تراجع معيار الكفاءة في العقود الأخيرة عند اختيار  الكوادر العاملة لصالح معيار المصلحة الشخصية في منظومة منهجية تكاد تعبر عن / أو تشي بي مؤامرة على المجتمع المصري ، يتجلى هذا في إدارة وحدة محلية ما في محافظة من محافظات مصر لملف التعدي على الأراضي الزراعية أو تنظيم حركة المرور مثلما يتجلى في إدارة ملف مثل : ملف سد النهضة أو "محاربة الإرهاب" ، أو مكافحة الجريمة ... الخ ... فتجليات الفشل تصيب الجهاز الإداري التنفيذي مثلما تصيب الإدارة السياسية .
الإدارة الحالية :
           ولم تكن الحكومة التي جاءت عقب الموجة الثورية الثانية للثورة في 30 يونيو ببعيدة عن تداعيات عقود الفشل/ الإفشال التي تعانيها مؤسسات الدولة المصرية ، والتي امتدت ( ظهر هذا بوضوح عقب ثورة يناير) لتشمل المجتمع المصري بتنظيماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فما بين وجوه قديمة تحتل المشهد من جديد وما بين وجوه جديدة أصابها ما أصاب المجتمع والدولة المصرية ، انتقلنا من فشل إلى فشل ، ومن انتكاسة إلى أخرى ، ما زالت الأزمات اليومية تتوالى ما بين شح السولار وانقطاع الكهرباء ...الخ ، ويلقي الطرفين (المجتمع والدولة) باللوم على الآخر  .. من منهم صانع تلك المأساة ؟! 
زوايا للرؤية :
العمال والدولة :
    يمثل العاملين في جهاز الدولة بمختلف المستويات (البيرورقراطية المصرية) نبسبة كبيرة (؟) من قوة العمل في مصر ، تمكنت حكومات ما قبل الثورة على مدى عقود من إجبار معظمهم على ممارسة شكل ما من أشكال الفساد ليتمكن من دعم قدراته الفردية على تلبية احتياجاته (الخاصة) . ويشغل العاملون في القطاع العام أو ما عرف في زمن الخصخصة بقطاع الأعمال نسبة لا يستهان بها من(؟) قوة العمل المنتج في مصر ، وفي السنوات الأخيرة قامت أجهزة الدولة باستبعاد كافة الخبرات لحساب رجال الأعمل، إما بالفصل التعسفي ، أو بالضغط على العمال ، أو بالمعاش المبكر ... النتيجة عدد كبير من العمال ذوي الخبرة لم يعد موجودا ولم يتم استبداله بعمال مهرة ... أما عن جهاز الدولة فالمسألة تتعدى فساد إداري ومحسوبية ...ألخ ... لتصب في خانة الفساد المقنن والتي كان رجال جمال مبارك في السنوات العشر الأخيرة يفصلونها على مقاس مجموعتهم ، ولعل الأشهر في ذلك مشروع القانون الذي تقدم به (أحمد عز) لتقنين وإباحة بيع الآثار ... وطبعا المصريين بطبعهم لديههم مثل شعبي عظيم ( إن خرب بيت أبوك خد لك منه قالب ) يقنن لهم الحصول على الفتات في الدولة الفاسدة ، وهو في هذه الحالة ( تعيين الأبناء) والذي حول مؤسسات الدولة إلى أجهزة عائلية ... سنجد ذلك في قطاعات البترول ، الثقافة ، القضاء ، البريد ، الشرطة ، المحليات ...ألخ ... لن تتمكن من تقديم استثناءات كبيرة في هذا الصدد ... وفي الواقع يعبر هذا عن تواطؤ فج  لتقنين الفساد بين أجهزة الدولة والمجتمع ... لم يعد المعيار هو الكفاءة ، بل (صلة الرحم) ... توطئة لتوريث الحكم على نفس المنوال ، فإذا كان ابن الطبيب يصبح طبيبا ، وابن المهندس يصبح مهندسا ، وابن الموظف أو العامل يصبح موظفا أو عاملا ... فمن الأولى أن يصبح ابن الرئيس رئيسا ، ولن يكون ذلك مستغربا من قبل المجتمع في شيئ .
القوى العاملة :
    ثم يأتي الميراث الضخم الذي تركته دولة عبد الناصر من تضخم في أعداد العاملين في أجهزة الدولة لتمثل تحديا آخر لمصر ما بعد الثورة ، ، فلقد دأبت الدولة في عهد عبد الناصر على تعيين كل الخريجين في مختلف المجالات والمستويات التعليمية ، في تعهد واضح على رعايتها لشعبها ــــــ ـوهو أمر محمود في بعضه ـــــــ  ولكنها على مدار السنوات فشلت في الاستفادة الفعلية من هذه الموارد البشرية ، أصحاب القدرات المتنوعة ، وبدلا من فتح مجالات عمل تتناسب وهذه التخصصات بدأت في تسكينهم في وظائف إدارية لا تنتمي للتخصص بصلة ، واستمر هذا الوضع إبان حكم السادات ، وهو الأمر الذي أصاب كثيرون بالإحباط ... فما بين أفراد محبطون ، وجهاز مكدس بوظائف وموظفون زائدون عن الحاجة ، تسارعت وتيرة الفشل والفساد ، لتعشش في أجهزة الدولة المصرية وتشكل منظومة حياتية مقبولة أخلاقيا . زاد من حدتها ضعف الأجور وضآلة العائد الذي لم يعد يتناسب مع التضخم وغلاء الأسعار ، وخاصة مع تولي مبارك الحكم في بداية حقبة الثمانينات ، والتي سبقتها سنوات من تكسير منظومة القيم السائدة إبان سبعينات القرن الماضي ... والتي بدأت بالانفتاح الاقتصادي العشوائي وانتهت بمعاهدة صلح مع العدو الأول للمصريين وما بينهما من تساقط لمفاهيم وتصورات كانت تبدو مصادرات ومسلمات لا يأتيها الباطل ولا يغيرها زمن ...
الإنكار :
        قد ينظر الكثير لهذا الوضع بوصفه وضعا عاديا لا يمثل فسادا بل يعبر عن عدالة ومساواة ، ففي زمن تخلت فيه الدولة عن تقديم الوظائف لخريجيها (دولة عبدالناصر) ، وندرت فيه فرص العمل ، من الأولى أن يكون الاستبدال هنا بين (موظف) خدم الـ(الهيئة) طوال عمره (من 30 : 40 سنة ) وابنه الذي لا يجد فرصة عمل ، إنها مكافأة نهاية الخدمة ... وهكذا يبدو الوضع للمراقب منطقيا وربما (عادلا) ومن ثم يصبح الحديث عن الفساد في هذا الأمر وكأنه حديث شخص حاقد أو لم يصبه الحظ في تعيين وينكر الجميع شبهة الفساد ...
       في واقع الأمر إن عملية الاستبعاد التي تمت (دون قصد ربما) لشخص ليس له قرابات داخل هذه الهيئة رغم كفاءته واجتهاده ، تنفي صفة العدل عن هذه الممارسة ، وتنتفي صفة المنطقية أيضا عندما نكتشف أن الشخص الذي تم تعيينه غير مناسب لهذه الوظيفة، وغير كفء لشغلها ، لندرك حجم المأساة التي حدثت ليس مع تعيين هذه الشخص تحديدا ولكن مع مد الأمور على استقامتها لنكتشف أن الهيئة قد تحولت من هيئة ذات أهداف ، ودور ، ووظيفة واضحة ، لمكان يجتمع فيه مجموعة من البشر (الأقرباء) بلا دور ، بلا وظيفة ، عاجزون عن أداء أي عمل بكفاءة ، أو مهنية ، فتكون النتيجة فشل ذريع على مستوى الهيئة ، إحباط (الأشخاص المستبعدون) الذي يسيد مجموعة من القيم السلبية مفادها : لا مكان للكفاءة بيننا . ومع تدني مستوى التعليم ، والمنافسة بين ( مجموعة من غير الأكفاء ) تشكل المحسوبية ، والرشوة ، والفهلوة ، والانتهازية والوصولية ، والنفاق ...ألخ منظومة قيم حاكمة تسيطر على مؤسسات الدولة ، ومن ثم تنتقل للمجتمع في كافة تعاملاته وعلاقاته ، (السباك الذي لا يتقن عمله عن عمد حتى يمكنه العودة لتقديم خدماته مرة أخرى .. وكذلك الكهربائي والنجار ...ألخ ) هذه المنظومة القيمية السائدة تضرب المجتمع في مقتله ، وتشكله ليصبح قابلا للحكم الفاسد والمستبد في سلسلة قهر لا تنتهي ، ويصبح المجتمع وتجلياته التنظيمية ، والدولة وتجلياتها التنظيمية ، معرضان لأكبر عملية انهيار قد تحدث في تاريخ المجتمع ، ومن ثم تتحول الدولة إلى دولة فاشلة.             
الخلاص:
     وفي واقع الأمر أن التناقضات هنا (داخل المجتمع) قد وصلت إلى ذروتها ، فعملية علاج هذا المجتمع وهذه الدولة في صورتهما الراهنة تبدو يائسة ، وتكاد تكون مستحيلة ، ذلك لأن موازين القوى تعبر عن نجاح ساحق لعلاقات الفساد/الفشل السائدة ، والذين يرغبون في الإصلاح ، أو الذين يثورون على الوضع ، قد مسهم بعض من فساد ، نتيجة تعرضهم لهذه القيم أثناء العملية التعليمية ، أو عبر ممارسة بعض منه ( رخصة مرور من خلال رشوة  ، الخروج من طابور ما في هيئة حكومية باستخدام الرشوة ، توظيف أحد الأقرباء بمحسوبية أو واسطة ...ألخ ) . ومن ناحية أخرى هناك خلل ما في منطق حكمهم على الأمور ، نتيجة فساد منظومة القيم المجتمعية السائدة ، والتي تحدد ليس فقط طبيعة العلاقات البينية داخل المجتمع ، بل محددات النجاح والفشل على المستوى الشخصي ، وتفرض أيضا منطقا معرفيا وأخلاقيا للوعي الجمعي ، ومن لم يصبهم بعض من فساد أصابهم بعض من عوارض أمراض العزلة المجتمعية (الجيتو) ، أو بعض من آثار اليأس والإحباط ، أو كفر بقيم العدل والمساواة وإمكان تحققها ، أو ضعف خبرة نتيجة عدم الممارسة ... ألخ ... فالتناقضات المطروحة تزيد الموقف تعقيدا ، وتمنح جماعات المصالح التي يضربها الفساد وقتا كافيا للم شتاتهم والاستمرار أطول وقت ممكن .
ما العمل :
       في واقع الأمر أن عملية العلاج التي تحتاجها دولة من هذا النوع ، ومجتمع قد وصل إلى هذا الحد ، تبدأ بالمكاشفة والاعتراف ... دون مكاشفة ومع استمرار الإنكار تكون النتيجة دائما (صفر) ويصبح الفشل هو سيد الموقف ... علينا إذن في البداية أن نعترف بما وصلنا إليه من حالة ترد تنخر في عظام مجتمعنا ... لدينا مشكلة ... وعلينا حلها ... لن تحل بعيدا عنا ... لن تحل من خلال شخص [ مخلص أو منقذ] مهما كانت قدراته البشرية ، لن تحل بدون دفع ثمن للعلاج وتضحيات نتشاركها (جميعا) دون تمييز أو محاباة لفئة ، لن يدفع الثمن طبقة بعينها ، ولن يجني الأرباح طبقة بعينها ، هذا الوطن ملك لكل اامصريين ، ملك لمن لا يستطيع الفرار من أزماته ، ملك لمن لا يمتلك (جنسية) تحميه من كارثتنا وشيكة الحدوث ، ملك لمن يقدم تضحيات واضحة للنهوض والبناء ، وليس مجرد تعبيرات عاطفية لا تغني ولا تسمن من جوع ، ملك لكل من يقدم خطة واقعية ، عملية ، واضحة ، محددة ، قابلة للتنفيذ والقياس والتقييم والمحاسبة ، ملك لمن يقدر على توصيف أزمتنا وتقديم العلاج المناسب ، القادر على هدم وتدمير البنى الفاسدة والعاطبة وتقديم وبناء البنى البديلة المناسبة .
    إن إنحيازا واضحا لمنظومة قيم جديدة تتمثل في سيادة الحرية والعدل والمساواة وعدم التمييز بين كل المواطنين على الأرض المصرية لهو خطوة على الطريق نحو مواجهة تحديات ومعوقات تبدو مستعصية على الحل .. ويأتي الإصرار على مبدأ سيادة القانون وضرورة تطبيقه على الجميع دون استثناءات ليدعم هذه القيم الجديدة فعلا لا قولا .
       وهو الأمر الذي سيسمح بتعديل توجهات المجتمع نحو قيمة فقدناها وتوقفنا عن احترام تجلياتها ألا وهي "قيمة العمل" ... إنها رسالة يجب أن تصل للجميع ... أ ن الأفضلية لمن يعمل بـ "إتقان" ، الأفضلية لمن يبذل قصارى جهده ، وليس المنافقين والموالسين و "ماسحي الجوخ" ... أن الفهلوة حيلة الجاهل والكسول ، أن الوقت مورد لا يمكن تعويضه ، أن الكفاءة والعلم والمهنية هي سر النجاح والتقدم ، وليس الممالأة و "التطبيل" ... وهو موضوع بحاجة لحديث طويل .
       لتسترد قيمة العمل احترامها المفقود ، ينبغي أن يكون حقا للجميع ، تسعى الدولة لتوفيره وبذل الجهد للقضاء على البطالة ( في أعمال منتجة وحقيقية وليس مجرد تعيينات على وظائف وهمية) في إطار خطة متكاملة الأبعاد ، تراعي الرؤية العامة للتنمية المنشودة ... لتسترد قيمة العمل احترامها المفقود ، ينبغي أن يثاب المجتهد ، ويعاقب المقصر ... ليصبح العمل قولا وفعلا حق ، وواجب ، وشرف .
    ثم يأتي في مقدمة السعي نحو العلاج ، تطوير منظومة التعليم ( وهو أمر يحتاج لمساحة منفردة ) وأن يكون هناك إرادة سياسية ومجتمعية نحو التوقف عندها واستبدالها ، فلن يكون هناك تقدما وتنمية بدون بشر قادرين على إنجازها ، وامتلاك أدواتها .

       إن العوامل التي أدت لاندلاع ثورة يناير وساعدت على إنجاحها مازالت قائمة ، والمؤسسات التي ساندت النظام الفاشل ودعمت فشله لا يمكن أن تستمر لأن استمرارها معناه انهيار للدولة واستمرارا للفشل ... ومن ثم استمرار القلق والتوتر بل وتصاعد وتيرتيهما وهو ما نراه يوميا ، عبر الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات التي تحدث (خارج منظومة الجماعة الإرهابية) ، ولن يكون إلصاق تهمة الخيانة أو الأخونة لكل معترض أو متظاهر أو مضرب هو الحل لهذه المشكلات ، ولن يكون العلاج بقمع هذه التوترات أو إنكار أسبابها ، مهما على صوت الإعلام الموجه ومهما كان إلحاحه وإعلائه من قيم الفاشية الوطنية (التي سترتد عليه يوما) ... الحل الأكيد والعلاج الناجح في الاعتراف بالمشكلة والمكاشفة ، والبحث عن / ووضع الحلول المناسبة التي توقف الكارثة .