الأحد، 30 مارس 2014

الدولة المصرية الفاشلة


مجتمع جديد أو الكارثة 
         لم تكن ثورة 25 يناير مؤامرة أمريكية أخوانية صهيونية إلى آخره من الأوصاف التي يحب منظروا الثورة المضادة إلصاقها بهذه الثورة المجيدة ، بل كانت تعبيرا واضحا عن سخط مجتمعي ، وغضب شعبي متباين الدوافع الأسباب ، ولكنه يعبر بوجه ما من الوجوه عن فشل مؤسسات الدولة في تسيير شئون المجتمع ، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات ــــ التي تعبر في صميمها عن مجموعة من الحقوق المجتمعية الملزمة لأية دولة في حدوها الدنيا ــــ ولقد طالت منظومة الفشل هذه مؤسسات الدولة كافة ، بما فيها التعليم والصحة ، فتراجعت كفاءة المصريين مثلما تراجعت صحتهم ، ولم تكن مؤسسات إدارة الدولة السياسية ببعيدة عن هذا الفشل الذي أصاب منظومة العمل . ولهذا الفشل أسبابه المنطقية من فساد ومحسوبية تعشش في كيانات هذه المؤسسات وهياكلها الإدارية ، حيث تراجع معيار الكفاءة في العقود الأخيرة عند اختيار  الكوادر العاملة لصالح معيار المصلحة الشخصية في منظومة منهجية تكاد تعبر عن / أو تشي بي مؤامرة على المجتمع المصري ، يتجلى هذا في إدارة وحدة محلية ما في محافظة من محافظات مصر لملف التعدي على الأراضي الزراعية أو تنظيم حركة المرور مثلما يتجلى في إدارة ملف مثل : ملف سد النهضة أو "محاربة الإرهاب" ، أو مكافحة الجريمة ... الخ ... فتجليات الفشل تصيب الجهاز الإداري التنفيذي مثلما تصيب الإدارة السياسية .
الإدارة الحالية :
           ولم تكن الحكومة التي جاءت عقب الموجة الثورية الثانية للثورة في 30 يونيو ببعيدة عن تداعيات عقود الفشل/ الإفشال التي تعانيها مؤسسات الدولة المصرية ، والتي امتدت ( ظهر هذا بوضوح عقب ثورة يناير) لتشمل المجتمع المصري بتنظيماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فما بين وجوه قديمة تحتل المشهد من جديد وما بين وجوه جديدة أصابها ما أصاب المجتمع والدولة المصرية ، انتقلنا من فشل إلى فشل ، ومن انتكاسة إلى أخرى ، ما زالت الأزمات اليومية تتوالى ما بين شح السولار وانقطاع الكهرباء ...الخ ، ويلقي الطرفين (المجتمع والدولة) باللوم على الآخر  .. من منهم صانع تلك المأساة ؟! 
زوايا للرؤية :
العمال والدولة :
    يمثل العاملين في جهاز الدولة بمختلف المستويات (البيرورقراطية المصرية) نبسبة كبيرة (؟) من قوة العمل في مصر ، تمكنت حكومات ما قبل الثورة على مدى عقود من إجبار معظمهم على ممارسة شكل ما من أشكال الفساد ليتمكن من دعم قدراته الفردية على تلبية احتياجاته (الخاصة) . ويشغل العاملون في القطاع العام أو ما عرف في زمن الخصخصة بقطاع الأعمال نسبة لا يستهان بها من(؟) قوة العمل المنتج في مصر ، وفي السنوات الأخيرة قامت أجهزة الدولة باستبعاد كافة الخبرات لحساب رجال الأعمل، إما بالفصل التعسفي ، أو بالضغط على العمال ، أو بالمعاش المبكر ... النتيجة عدد كبير من العمال ذوي الخبرة لم يعد موجودا ولم يتم استبداله بعمال مهرة ... أما عن جهاز الدولة فالمسألة تتعدى فساد إداري ومحسوبية ...ألخ ... لتصب في خانة الفساد المقنن والتي كان رجال جمال مبارك في السنوات العشر الأخيرة يفصلونها على مقاس مجموعتهم ، ولعل الأشهر في ذلك مشروع القانون الذي تقدم به (أحمد عز) لتقنين وإباحة بيع الآثار ... وطبعا المصريين بطبعهم لديههم مثل شعبي عظيم ( إن خرب بيت أبوك خد لك منه قالب ) يقنن لهم الحصول على الفتات في الدولة الفاسدة ، وهو في هذه الحالة ( تعيين الأبناء) والذي حول مؤسسات الدولة إلى أجهزة عائلية ... سنجد ذلك في قطاعات البترول ، الثقافة ، القضاء ، البريد ، الشرطة ، المحليات ...ألخ ... لن تتمكن من تقديم استثناءات كبيرة في هذا الصدد ... وفي الواقع يعبر هذا عن تواطؤ فج  لتقنين الفساد بين أجهزة الدولة والمجتمع ... لم يعد المعيار هو الكفاءة ، بل (صلة الرحم) ... توطئة لتوريث الحكم على نفس المنوال ، فإذا كان ابن الطبيب يصبح طبيبا ، وابن المهندس يصبح مهندسا ، وابن الموظف أو العامل يصبح موظفا أو عاملا ... فمن الأولى أن يصبح ابن الرئيس رئيسا ، ولن يكون ذلك مستغربا من قبل المجتمع في شيئ .
القوى العاملة :
    ثم يأتي الميراث الضخم الذي تركته دولة عبد الناصر من تضخم في أعداد العاملين في أجهزة الدولة لتمثل تحديا آخر لمصر ما بعد الثورة ، ، فلقد دأبت الدولة في عهد عبد الناصر على تعيين كل الخريجين في مختلف المجالات والمستويات التعليمية ، في تعهد واضح على رعايتها لشعبها ــــــ ـوهو أمر محمود في بعضه ـــــــ  ولكنها على مدار السنوات فشلت في الاستفادة الفعلية من هذه الموارد البشرية ، أصحاب القدرات المتنوعة ، وبدلا من فتح مجالات عمل تتناسب وهذه التخصصات بدأت في تسكينهم في وظائف إدارية لا تنتمي للتخصص بصلة ، واستمر هذا الوضع إبان حكم السادات ، وهو الأمر الذي أصاب كثيرون بالإحباط ... فما بين أفراد محبطون ، وجهاز مكدس بوظائف وموظفون زائدون عن الحاجة ، تسارعت وتيرة الفشل والفساد ، لتعشش في أجهزة الدولة المصرية وتشكل منظومة حياتية مقبولة أخلاقيا . زاد من حدتها ضعف الأجور وضآلة العائد الذي لم يعد يتناسب مع التضخم وغلاء الأسعار ، وخاصة مع تولي مبارك الحكم في بداية حقبة الثمانينات ، والتي سبقتها سنوات من تكسير منظومة القيم السائدة إبان سبعينات القرن الماضي ... والتي بدأت بالانفتاح الاقتصادي العشوائي وانتهت بمعاهدة صلح مع العدو الأول للمصريين وما بينهما من تساقط لمفاهيم وتصورات كانت تبدو مصادرات ومسلمات لا يأتيها الباطل ولا يغيرها زمن ...
الإنكار :
        قد ينظر الكثير لهذا الوضع بوصفه وضعا عاديا لا يمثل فسادا بل يعبر عن عدالة ومساواة ، ففي زمن تخلت فيه الدولة عن تقديم الوظائف لخريجيها (دولة عبدالناصر) ، وندرت فيه فرص العمل ، من الأولى أن يكون الاستبدال هنا بين (موظف) خدم الـ(الهيئة) طوال عمره (من 30 : 40 سنة ) وابنه الذي لا يجد فرصة عمل ، إنها مكافأة نهاية الخدمة ... وهكذا يبدو الوضع للمراقب منطقيا وربما (عادلا) ومن ثم يصبح الحديث عن الفساد في هذا الأمر وكأنه حديث شخص حاقد أو لم يصبه الحظ في تعيين وينكر الجميع شبهة الفساد ...
       في واقع الأمر إن عملية الاستبعاد التي تمت (دون قصد ربما) لشخص ليس له قرابات داخل هذه الهيئة رغم كفاءته واجتهاده ، تنفي صفة العدل عن هذه الممارسة ، وتنتفي صفة المنطقية أيضا عندما نكتشف أن الشخص الذي تم تعيينه غير مناسب لهذه الوظيفة، وغير كفء لشغلها ، لندرك حجم المأساة التي حدثت ليس مع تعيين هذه الشخص تحديدا ولكن مع مد الأمور على استقامتها لنكتشف أن الهيئة قد تحولت من هيئة ذات أهداف ، ودور ، ووظيفة واضحة ، لمكان يجتمع فيه مجموعة من البشر (الأقرباء) بلا دور ، بلا وظيفة ، عاجزون عن أداء أي عمل بكفاءة ، أو مهنية ، فتكون النتيجة فشل ذريع على مستوى الهيئة ، إحباط (الأشخاص المستبعدون) الذي يسيد مجموعة من القيم السلبية مفادها : لا مكان للكفاءة بيننا . ومع تدني مستوى التعليم ، والمنافسة بين ( مجموعة من غير الأكفاء ) تشكل المحسوبية ، والرشوة ، والفهلوة ، والانتهازية والوصولية ، والنفاق ...ألخ منظومة قيم حاكمة تسيطر على مؤسسات الدولة ، ومن ثم تنتقل للمجتمع في كافة تعاملاته وعلاقاته ، (السباك الذي لا يتقن عمله عن عمد حتى يمكنه العودة لتقديم خدماته مرة أخرى .. وكذلك الكهربائي والنجار ...ألخ ) هذه المنظومة القيمية السائدة تضرب المجتمع في مقتله ، وتشكله ليصبح قابلا للحكم الفاسد والمستبد في سلسلة قهر لا تنتهي ، ويصبح المجتمع وتجلياته التنظيمية ، والدولة وتجلياتها التنظيمية ، معرضان لأكبر عملية انهيار قد تحدث في تاريخ المجتمع ، ومن ثم تتحول الدولة إلى دولة فاشلة.             
الخلاص:
     وفي واقع الأمر أن التناقضات هنا (داخل المجتمع) قد وصلت إلى ذروتها ، فعملية علاج هذا المجتمع وهذه الدولة في صورتهما الراهنة تبدو يائسة ، وتكاد تكون مستحيلة ، ذلك لأن موازين القوى تعبر عن نجاح ساحق لعلاقات الفساد/الفشل السائدة ، والذين يرغبون في الإصلاح ، أو الذين يثورون على الوضع ، قد مسهم بعض من فساد ، نتيجة تعرضهم لهذه القيم أثناء العملية التعليمية ، أو عبر ممارسة بعض منه ( رخصة مرور من خلال رشوة  ، الخروج من طابور ما في هيئة حكومية باستخدام الرشوة ، توظيف أحد الأقرباء بمحسوبية أو واسطة ...ألخ ) . ومن ناحية أخرى هناك خلل ما في منطق حكمهم على الأمور ، نتيجة فساد منظومة القيم المجتمعية السائدة ، والتي تحدد ليس فقط طبيعة العلاقات البينية داخل المجتمع ، بل محددات النجاح والفشل على المستوى الشخصي ، وتفرض أيضا منطقا معرفيا وأخلاقيا للوعي الجمعي ، ومن لم يصبهم بعض من فساد أصابهم بعض من عوارض أمراض العزلة المجتمعية (الجيتو) ، أو بعض من آثار اليأس والإحباط ، أو كفر بقيم العدل والمساواة وإمكان تحققها ، أو ضعف خبرة نتيجة عدم الممارسة ... ألخ ... فالتناقضات المطروحة تزيد الموقف تعقيدا ، وتمنح جماعات المصالح التي يضربها الفساد وقتا كافيا للم شتاتهم والاستمرار أطول وقت ممكن .
ما العمل :
       في واقع الأمر أن عملية العلاج التي تحتاجها دولة من هذا النوع ، ومجتمع قد وصل إلى هذا الحد ، تبدأ بالمكاشفة والاعتراف ... دون مكاشفة ومع استمرار الإنكار تكون النتيجة دائما (صفر) ويصبح الفشل هو سيد الموقف ... علينا إذن في البداية أن نعترف بما وصلنا إليه من حالة ترد تنخر في عظام مجتمعنا ... لدينا مشكلة ... وعلينا حلها ... لن تحل بعيدا عنا ... لن تحل من خلال شخص [ مخلص أو منقذ] مهما كانت قدراته البشرية ، لن تحل بدون دفع ثمن للعلاج وتضحيات نتشاركها (جميعا) دون تمييز أو محاباة لفئة ، لن يدفع الثمن طبقة بعينها ، ولن يجني الأرباح طبقة بعينها ، هذا الوطن ملك لكل اامصريين ، ملك لمن لا يستطيع الفرار من أزماته ، ملك لمن لا يمتلك (جنسية) تحميه من كارثتنا وشيكة الحدوث ، ملك لمن يقدم تضحيات واضحة للنهوض والبناء ، وليس مجرد تعبيرات عاطفية لا تغني ولا تسمن من جوع ، ملك لكل من يقدم خطة واقعية ، عملية ، واضحة ، محددة ، قابلة للتنفيذ والقياس والتقييم والمحاسبة ، ملك لمن يقدر على توصيف أزمتنا وتقديم العلاج المناسب ، القادر على هدم وتدمير البنى الفاسدة والعاطبة وتقديم وبناء البنى البديلة المناسبة .
    إن إنحيازا واضحا لمنظومة قيم جديدة تتمثل في سيادة الحرية والعدل والمساواة وعدم التمييز بين كل المواطنين على الأرض المصرية لهو خطوة على الطريق نحو مواجهة تحديات ومعوقات تبدو مستعصية على الحل .. ويأتي الإصرار على مبدأ سيادة القانون وضرورة تطبيقه على الجميع دون استثناءات ليدعم هذه القيم الجديدة فعلا لا قولا .
       وهو الأمر الذي سيسمح بتعديل توجهات المجتمع نحو قيمة فقدناها وتوقفنا عن احترام تجلياتها ألا وهي "قيمة العمل" ... إنها رسالة يجب أن تصل للجميع ... أ ن الأفضلية لمن يعمل بـ "إتقان" ، الأفضلية لمن يبذل قصارى جهده ، وليس المنافقين والموالسين و "ماسحي الجوخ" ... أن الفهلوة حيلة الجاهل والكسول ، أن الوقت مورد لا يمكن تعويضه ، أن الكفاءة والعلم والمهنية هي سر النجاح والتقدم ، وليس الممالأة و "التطبيل" ... وهو موضوع بحاجة لحديث طويل .
       لتسترد قيمة العمل احترامها المفقود ، ينبغي أن يكون حقا للجميع ، تسعى الدولة لتوفيره وبذل الجهد للقضاء على البطالة ( في أعمال منتجة وحقيقية وليس مجرد تعيينات على وظائف وهمية) في إطار خطة متكاملة الأبعاد ، تراعي الرؤية العامة للتنمية المنشودة ... لتسترد قيمة العمل احترامها المفقود ، ينبغي أن يثاب المجتهد ، ويعاقب المقصر ... ليصبح العمل قولا وفعلا حق ، وواجب ، وشرف .
    ثم يأتي في مقدمة السعي نحو العلاج ، تطوير منظومة التعليم ( وهو أمر يحتاج لمساحة منفردة ) وأن يكون هناك إرادة سياسية ومجتمعية نحو التوقف عندها واستبدالها ، فلن يكون هناك تقدما وتنمية بدون بشر قادرين على إنجازها ، وامتلاك أدواتها .

       إن العوامل التي أدت لاندلاع ثورة يناير وساعدت على إنجاحها مازالت قائمة ، والمؤسسات التي ساندت النظام الفاشل ودعمت فشله لا يمكن أن تستمر لأن استمرارها معناه انهيار للدولة واستمرارا للفشل ... ومن ثم استمرار القلق والتوتر بل وتصاعد وتيرتيهما وهو ما نراه يوميا ، عبر الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات التي تحدث (خارج منظومة الجماعة الإرهابية) ، ولن يكون إلصاق تهمة الخيانة أو الأخونة لكل معترض أو متظاهر أو مضرب هو الحل لهذه المشكلات ، ولن يكون العلاج بقمع هذه التوترات أو إنكار أسبابها ، مهما على صوت الإعلام الموجه ومهما كان إلحاحه وإعلائه من قيم الفاشية الوطنية (التي سترتد عليه يوما) ... الحل الأكيد والعلاج الناجح في الاعتراف بالمشكلة والمكاشفة ، والبحث عن / ووضع الحلول المناسبة التي توقف الكارثة .